مقالات

العراق بين فكي التلوث والإنقاذ: قراءة موضوعية في الأزمة وجهود المعالجة البيئية

أ.د جاسم الفلاحي
يعاني العراق في السنوات الأخيرة من أزمة بيئية متفاقمة تتمثل في ارتفاع مستويات التلوث في مختلف أشكاله، بما في ذلك تلوث المياه والهواء والتربة، فضلًا عن زيادة عدد العواصف الترابية وتراجع الغطاء النباتي، وهو ما انعكس بشكل مباشر على صحة المواطنين ومستوى جودة الحياة في البلاد. وقد ساهمت عوامل متعددة في تعميق هذه الأزمة، من بينها التدهور في البنية التحتية، وسوء إدارة الموارد الطبيعية، والأنشطة الصناعية غير المنظمة، إلى جانب الحروب المتتالية والضغوط المناخية التي تتعرض لها المنطقة. وتُعد مشكلة تلوث المياه من أبرز القضايا التي تواجه البلاد، حيث يُلقى قسم كبير من مياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية في الأنهار دون معالجة كافية، مما أدى إلى تدهور نوعية المياه وازدياد الأمراض المرتبطة بها، خاصة في المناطق الجنوبية التي تعاني من شح المياه وارتفاع نسبة الملوحة فيها. كما أن تلوث الهواء في المدن الكبرى، مثل بغداد والبصرة والموصل، قد بلغ مستويات خطيرة، نتيجة تراكم الانبعاثات من وسائل النقل والمولدات الكهربائية وحرق النفايات، وقد سجلت نسب الجسيمات الدقيقة في الهواء معدلات تفوق بعشرة أضعاف ما توصي به منظمة الصحة العالمية، وهو ما أسفر عن ارتفاع حالات الإصابة بأمراض التنفس والقلب، خاصة بين الفئات الهشة من السكان.

ولا يمكن إغفال العواصف الغبارية التي باتت ظاهرة شبه يومية في بعض المناطق العراقية، نتيجة التصحر الواسع وفقدان الغطاء النباتي، وقد وصلت أيام العواصف في بعض المحافظات إلى أكثر من 270 يومًا سنويًا، مسببة أزمات صحية حادة وشللًا في مختلف القطاعات الاقتصادية، وتهديدًا مباشرًا لخطط التنمية الزراعية والاقتصادية. وبرغم ضخامة هذه التحديات البيئية، فإن الحكومة العراقية، ووزارة البيئة على وجه الخصوص، لم تقف مكتوفة الأيدي، بل شرعت خلال السنوات الأخيرة في تنفيذ سلسلة من الخطوات الجادة لمعالجة التلوث وتحسين نوعية البيئة. ومن أبرز هذه الخطوات إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحماية البيئة 2030، التي تهدف إلى تقليل نسب التلوث، وتعزيز الإدارة المستدامة للموارد، والتكيف مع آثار التغير المناخي، بالشراكة مع منظمات الأمم المتحدة ومؤسسات التمويل الدولية. كما كثفت وزارة البيئة من دورها الرقابي على الأنشطة الصناعية والزراعية والخدمية، واتخذت إجراءات صارمة بحق المنشآت المخالفة، مع تفعيل قانون حماية وتحسين البيئة الذي يفرض عقوبات مالية وإدارية على الجهات التي تلوث الهواء أو الماء أو التربة.

وفي جانب آخر، سعت الوزارة إلى تعزيز التعاون الدولي من خلال مشاريع تمويل مشتركة مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، تركز على بناء محطات معالجة المياه، وتطوير أنظمة الإنذار البيئي، وتدريب الكوادر الوطنية. كما أدخلت تقنيات رقمية حديثة في المراقبة البيئية، مثل استخدام الأقمار الصناعية والاستشعار عن بُعد وتطبيقات نظم المعلومات الجغرافية، وهو ما ساهم في تحسين قدرة الدولة على رصد وتقييم مؤشرات التلوث بشكل فوري ودقيق. هذه الإجراءات لا تعني أن المشكلات قد حُلّت بشكل كامل، لكنها تعكس وجود إرادة سياسية ومؤسسية حقيقية للتعامل مع الأزمة البيئية كأولوية وطنية. إن الواقع البيئي في العراق معقد، ولا يمكن فصله عن التحديات السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد، إلا أن ما يُحسب لوزارة البيئة هو قدرتها على العمل في ظروف صعبة، واستقطاب الدعم الدولي، وفتح قنوات التعاون مع المجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية، لتشكيل قاعدة وطنية للسياسات البيئية المستدامة. ومن هنا فإن الدفاع عن دور الحكومة في هذا السياق لا يعني تبرئة الواقع من القصور، بل الاعتراف بالجهود الجادة التي بدأت تؤتي ثمارها، والتي تحتاج إلى استمرارية وتوسيع وتكامل بين الجهات كافة. إن مستقبل العراق البيئي يعتمد على الموازنة بين النمو الاقتصادي والحفاظ على الموارد، وعلى ترسيخ ثقافة بيئية مجتمعية، تضمن أن تكون البيئة عنصرًا من عناصر السيادة الوطنية، ومجالًا للعدالة بين الأجيال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى