حين تتحول حياتنا الى سلعة رقمية من يضع الحدود؟

ديمه الفاعوري
أصبحت حياة الأفراد مادة قابلة للتسويق على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تحوّل البعض من مشاهير الأردن إلى صناع محتوى يعتمدون على تفاصيلهم الشخصية لجذب المتابعين وتحقيق الانتشار تحت شعار «التريند». فلم تعد الخلافات الأسرية أو المشكلات الخاصة تدار في الخفاء، بل باتت تعرض على العلن وكأنها مشاهد درامية، في مزيج من الترفيه الزائف والاتجار بالمشاعر، حيث بات الحساب الشخصي لهؤلاء المؤثرين يتحول إلى ساحة مفتوحة للشتائم، وتلفيق الخلافات، والمبالغة في التوترات العائلية، سعياً وراء التفاعل والإعلانات.
وتشير تقارير عربية ودولية إلى أن هذه الظاهرة لا تقتصر على الأردن، بل تنتشر على نطاق واسع بين مشاهير العالم العربي، حيث تلاشت الخطوط الفاصلة بين الحياة العامة والخاصة، وصارت المشاكل العائلية أقرب إلى عروض ترفيهية، يتابعها الجمهور بشغف لا يخلو من الفضول والتطفل.
وتكمن الخطورة في أن كثيراً من هؤلاء المؤثرين يسعون إلى استدرار تعاطف الجمهور أو إثارة غضبه لتوسيع قاعدة شهرتهم وزيادة أرباحهم، مستغلين حساسية الناس تجاه القصص الأسرية والعواطف العميقة، وبذلك، تصبح الحياة الخاصة مادة استهلاكية، وتغدو الخلافات مادة تسويقية بامتياز، ولكن هذا النمط الجديد من «المحتوى» يصطدم بقيم المجتمع الأردني التقليدية التي تقدس الروابط العائلية وتحمي الخصوصية، إذ لا يزال الأردنيون، كما توثق العديد من المصادر الثقافية، يتمسكون بمفاهيم الشرف والحرص على سمعة العائلة، ويعتبرون أن العلاقات الأسرية يجب أن تُدار بحكمة بعيداً عن أنظار الغرباء.
ومع تصاعد هذا النوع من «التريندات»، بدأ الخبراء في وصف الظاهرة بأنها انقلاب حقيقي في القيم الاجتماعية؛ فما كان يتم ستره داخل البيوت صار اليوم يُعرض بلقطات متتالية أمام آلاف المتابعين، دون اعتبار للعواقب النفسية والاجتماعية. هذه الممارسات لا تمر دون أثر، خاصة على فئة الشباب والمراهقين، الذين يتأثرون بالمحتوى المعروض ويتفاعلون معه بوصفه معياراً للحياة الواقعية، وتظهر الدراسات أن العلاقة الوهمية بين المتابع والمؤثر قد تخلق اضطرابات نفسية مثل القلق والغيرة والشعور بالنقص، بل تدفع بالبعض إلى استبطان أفكار مشوهة حول الحياة الزوجية والعائلية، باعتبارها صراعات لا تنتهي، ومشاهد متوترة لا مجال فيها للسكينة.
وفيما يحاول البعض التماهي مع هذا الواقع الجديد، تتزايد التحذيرات من عواقبه طويلة الأمد، فاستسهال عرض الخصوصيات والسخرية من أقرب الناس لأجل «الانتشار»، يزعزع أسس الاحترام ويطبع سلوكيات التنمر والاستهزاء في وعي الجمهور، فيما تؤكد أصوات تربوية أن هذا النمط يؤدي إلى التطبيع مع السلوكيات السلبية، حيث يُصوّر السباب والشتم والتعدي اللفظي كوسائل عادية لجذب الانتباه، مما يشوه صورة الأخلاق العامة، ويقع ضحية ذلك التلاميذ والطلاب والمراهقون، الذين يبدؤون بتقليد هذا النموذج ظناً منهم أن هذه هي الطريقة المثلى للتواصل أو كسب الشعبية.
من جهة أخرى، يُنتقد غياب الرقابة الفعّالة على هذا النوع من المحتوى، فعلى الرغم من جهود الحكومة الأردنية في مواجهة خطاب الكراهية والأخبار الكاذبة على الإنترنت، إلا أن المحتوى الذي يسيء إلى العلاقات الخاصة لا يزال بلا ضوابط واضحة، فعلى سبيل المثال، ورغم حظر تطبيق «تيك توك» مؤقتًا في الأردن ومطالبة الشركة بحذف مئات الآلاف من الفيديوهات المسيئة، إلا أن ظاهرة استغلال الخلافات العائلية للحصول على «مشاهدات» لم تخضع بعد لأي تشريعات صريحة، وحتى حين اقترحت الحكومة الأردنية قوانين جديدة للتعامل مع المحتوى المؤذي، فإن تركيزها اقتصر على خطاب الكراهية، دون أن تمتد لتشمل الإساءة إلى الخصوصية أو التلاعب بالعلاقات الأسرية لأغراض تجارية.
ويبرز سؤال مهم هنا: ما الذي يدفع البعض للانخراط في هذا النوع من المحتوى رغم مخاطره؟ الجواب يكمن في الجانب الاقتصادي، فمع تصاعد معدلات البطالة، يرى البعض في «صناعة المحتوى» فرصة حقيقية لكسب المال وتحقيق الاستقلال المالي. بل إن المؤثرين الرقميين أصبحوا شريحة مؤثرة اقتصادياً، وبلغ حجم سوق التسويق عبر الإنترنت عشرات المليارات، ومن هنا بات من الضروري تنظيم المهنة، كما يطالب بذلك عدد من الخبراء، عبر فرض تسجيل رسمي على المؤثرين، وتحديد معايير أخلاقية تضمن احترام القيم العامة، وعدم استغلال الأطفال أو الخصوصيات، إلى جانب فرض الشفافية على المحتوى الإعلاني.
في السياق نفسه، تبرز أهمية التوعية المجتمعية بوصفها أحد أبرز أدوات المواجهة. فبدلاً من فرض رقابة صارمة على التكنولوجيا، يمكن تعزيز ثقافة نقدية لدى الجمهور، تساعدهم على التمييز بين المحتوى المفيد والمسيء، وتدفعهم لمقاطعة الحسابات التي تبني شهرتها على الفضائح، كما يمكن إدماج مفاهيم التربية الإعلامية في المناهج التعليمية، بما يرسخ لدى الناشئة قدرة على التعامل مع الإعلام الرقمي بوعي ومسؤولية. فالحل يبدأ من المدرسة والبيت، ولا ينتهي إلا بتكاتف الجهود المجتمعية لتكريس مفهوم أن الشهرة لا تأتي من بيع الخصوصيات، وأن القيم لا تُفرط على حساب «لايك» أو «ترند «.